وتتوالى الأحداث المرتبطة بأهمية صفاء الغلاف الجوي لرؤية الأجرام السماوية، وخاصة ما يعنينا منها الآن وهو الهلال، فاضطررت قبل حوالي أسبوع للسفر إلى مدينة عمان في زيارة قصيرة، وكحال أي مسافر كنت أفضل رحلة مباشرة من أبوظبي إلى عمّان، ولكن بسبب قرب موعد السفر وموسم الإجازات لم يتيسر لي إلا رحلة إلى مدينة عمّان مرورا بالبحرين، وبالطبع لم يسعدني ذلك، ولكن سبحان الله فقد كان لنزولي في البحرين أهمية قصوى! فلاحظت ظاهرة لم أرها بهذا الوضوح من قبل! ففي الجزء الأول والثاني والثالث من هذه المدونة كنا نتحدث عن دور التلوث الجوي في تشتيت وامتصاص أشعة الأجرام السماوية، ووجدنا أنه توجد مشاريع علمية وشبكات عالمية تقيس مقدار التلوث الجوي بأرقام واضحة تمكننا من معرفة مقدار التلوث بشكل دقيق بدلا من استخدام التقدير بالعين المجردة وما يخضع لذلك من وجة نظر الراصد وتقديره النسبي للأمور! فعلمنا أن هناك قيمة تسمى (TOD) Total Optical Depth وهي تعبر عن مقدار تشتت وامتصاص الأشعة الحاصل في الغلاف الجوي، وكلما زادت هذه القيمة كان الجو أسوأ ورؤية الأجرام أصعب. وعلمنا أن الـ TOD تتكون بشكل رئيس من مكونين الأول هو Aerosol Optical Depth (AOD) والثاني هو Rayleigh Optical Depth (ROD) إضافة لمكونين آخرين ليسا ذوي تأثير وهو التشتت والامتصاص الحاصل بسبب طبقة الأوزون والآخر بسبب الغازات النادرة الأخرى.
أما الـ ROD فهو التشتت والامتصاص الحاصل بسبب مكونات الغلاف الجوي نفسه (نيتروجين وأكسجين) وقيمته في العادة صغيرة وبشكل عام لا تتغير في المكان الواحد، فهي شبه ثابته. ولذلك كان اهتمام جميع الحملات العالمية بقيمة الـ AOD فهي القيمة التي لا يمكن حسابها بشكل دقيق أو حتى توقعها في المستقبل، وهي تتغير بشكل كبير جدا، وإن كانت كبيرة فقد تستحيل رؤية الأجرام السماوية على الرغم من وجودها. والـ AOD عبارة عن التشتت والامتصاص الحاصل في الغلاف الجوي بسبب العوالق من غبار وأدخنة ورماد وغيره من العوالق الكبيرة. وبشكل عام إن كانت قيمة الـ AOD في منطقة ما أكبر من 0.5 فإن هذا يعني أن الغلاف الجوي مغبر وغير نقي وغير صالح للأرصاد الفلكية الجادة، ووجدنا أن هذه القيمة عند تحري هلال شهر شعبان من مدينة أبوظبي كانت أكبر من 1.2 وهذه قيمة تعتبر مهولة وهي تعني أن الغلاف الجوي كان مغبرا وغير نقي لدرجة عالية جدا، مما جعل الشمس نفسها تختفي قبل غروبها بدقائق.
ومن المعروف أن زرقة السماء تختلف باختلاف نقاء الغلاف الجوي، فعندما يكون الغلاف الجوي نقي تكون السماء زرقاء، وكلما ازداد صفاء الغلاف الجوي ازدادت زرقة السماء، لدرجة أنها في المناطق الجبلية العالية قد تصبح أقرب إلى الكحلي في المناطق البعيدة عن الشمس، في حين أن زرقتها تقل كلما ازداد التلوث لدرجة أنها قد تصبح حليبية اللون من شدة التلوث.
عودة إلى بيت القصيد، فقد بدأت القصة معي عندما بدأت الطائرة بالهبوط في مطار البحرين، فقبل الهبوط كانت الطائرة تحلق على ارتفاع حوالي 7 كم فوق سطح البحر، وهذا بالطبع ارتفاع شاهق، وعندها كانت السماء شديدة الزرقة، وقد كنت أنظر إلى سحابة صغيرة من نوع سيروس، وهذا النوع عبارة عن سحب رقيقة عالية الارتفاع وتظهر في السماء على شكل ريشة أو ما شابه ذلك. وكلما كانت الطائرة تنخفض وتقترب من الأرض كانت تقل زرقة السماء وتنتقل إلى اللون الحليبي، وكانت تلك السحابة تقل وضوحا بسبب دخولنا في المنطقة الملوثة من الغلاف الجوي، وكلما انخفضا أكثر قل التباين بين السحابة وخلفية السماء التي خلفها، إلا أن وصلت إلى مرحلة لم أعد أرى تلك السحابة إطلاقا على الرغم من أنها كانت شديدة الوضوح قبل قليل!
لقد ذهلت مما رأيت، فقد كنت في الأجزاء السابقة من هذه المدونة أتحدث عن هذه الحقيقة عن طريق الأرقام، ولكن أن أرى بنفسي تأثير تلوث الغلاف الجوي على رؤية الأجسام فقد كان ذلك مدهشا بحق! وما رأيته كان مشابها إلى حد كبير بل شبه مطابق لمسألة رؤية الهلال! فالسحابة المرصدة عبارة عن جرم صغير في السماء أبيض اللون وصغير الحجم، وكان واضحا عندما كانت السماء نقية على ارتفاعات عالية، ولكن ما أن بدأنا بدخول المنطقة الملوثة من الغلاف الجوي إلا وبدأت رؤية السحابة تزداد صعوبة إلا أن اختفت تماما لأن الغلاف الجوي الملوث شتت جميع إضاءتها!
كم كنت أتمنى أن أصور مراحل رؤية هذه السحابة حتى يرى القارىء ما كنت أرى، ولكن للأسف لم يخطر ببالي أن مثل هذه التجربة ستحدث معي، فلا أملك إلا كاميرا الجوال، وهي جيدة إلا أنها ليست مخصصة لمثل هذه الأمور! كما أن تسارع الأمور أذهلني وأدهشني! فلا معنى لتصوير السحابة عندما أصبحت صعبة الرؤية إن لم أكن قد صورتها وهي واضحة!
2 تعليقات
عدنان قاضي says:
11 يوليو, 2012 الساعة 20:17 (UTC 4 )
لله درك يا محمد، أرجو الله أن تحمد عقباك. أما هؤلاء الذين لا يقدروا ما فعلت، فأجرك ليس عليهم؛ لا في الدنيا ولا في الآخرة. لقد سعدت وطربت بهذه السلسلة وهذا الجهد العظيم. وشكرا أيضا للقطبان يزيد، زاده الله ارتفاعا.
نورالدائم عبدالله المهدي says:
21 يونيو, 2016 الساعة 12:18 (UTC 4 )
السلام عليكم ورحمة الله في الحقيقة هذا المقال والاجزاء السابقه من مقالاتك (لم يري الهلال فماذا نستفيد)من اروع ما قرات في هذا المجال فلك الشكر والتقدير ونسال الله ان يجد هذا الكلام اذانا صاغية لمن لا يقدرون العلماء وجهود العلماء .عندي استفسار ي استاذ محمد (انا دائما ارصد الهلال من منطقة قريبه مطلة علي نهر فهل يوثر ذلك علي الرصد علما بان ارتفاع المنطقة حوالي 500متر عن مستوى سطح البحر ولكم خالص الشكر والتقدير